لا تحتاج مكانة العالم الفذ جمال حمدان إلى دليل أو برهان، ذلك أن نظرة عابرة على قائمة مؤلفاته وبحوثه تكشف عن إنجاز الرجل الذي عاش خمسة وستين عامًا، أنفقها في العالم الذي يحبه ويتفانى فيه، كأنه الراهب الذي يتعبد بلا مأرب ذاتي.
جميل أن يعيش المرء هكذا، لكن الأجمل والأجدى ألا يستسلم لدواعي الإحباط واليأس. الانسحاب من الساحة قد يكون احتجاجًا رمزيًا دالاً، لكنه- في الوقت نفسه- لا يحقق انتصارًا ولا يبني تواصلاً.
لم يكن جمال حمدان من المتخصصين في علم بعينه، فهو يراود علمًا يجمع العلوم، وتجتمع فيه الجغرافيا مع التاريخ والاقتصاد مع السياسة والفلسفة، وصولاً إلى الرؤية الاستراتيجية الثابتة، فكأنه زرقاء اليمامة تنبه الغافلين من قومها، لكنهم لا ينتبهون.
يحظى جمال حمدان باحترام وتقدير النخبة من المثقفين، لكنه لا يترك أثرًا ذا بال في الطبقة الوسطى من المتعلمين، فضلاً عن القطاع العريض الذي يمثل السواد الأعظم من الناس. السر لا يكمن في صعوبة ما يكتب جمال حمدان، لكنه وثيق الصلة بحياة المنفى الاختياري التي آثرها. عاش ومات في منفى الذات، فهل يعبر الكهف الذي احتواه عن زهد أم ترفع؟!
المثقف المعاصر لا يملك ترف الابتعاد، فهو مطالب بالمقاومة والاشتباك مع أوضاع بالغة التعقيد، لا يجدي معها إدارة الظهر للواقع والهرولة بعيدًا عنه.
حياة مأسوية، وموت تراجيدي، وعشرون عامًا بعد الرحيل تفرض علينًا أن تقدم ملفًا عن المثقف العظيم، حتى يقترب منه من لا يعرفه، ويزداد اقترابًا من لا يعرف إلا القليل. نحبه ونقدره ونعاتبه، وندعو المعاصرين من تلاميذه ومحبيه ألا يكرروا سيرته، فالوطن في حاجة إليهم ليقاوم جيوش الانحطاط القادمة من العصور الوسطى لترتد بنا إلى الجاهلية.
ولد "جمال محمود صالح حمدان" في قرية "ناي" بمحافظة القليوبية بمصر في (12 شعبان 1346هـ / 4 فبراير سنة 1928م)، ونشأ في أسرة كريمة تنحدر من قبيلة "بني حمدان" العربية التي نزحت إلى مصر في أثناء الفتح الإسلامي.
كان والده أزهريًّا ومدرّسًا للغة العربية.. وقد اهتم بتحفيظ أبناءه السبعة القرآن الكريم، وتجويده وتلاوته على يديه؛ مما كان له أثر بالغ على شخصية "جمال حمدان"، وعلى امتلاكه نواصي اللغة العربية؛ مما غلّب على كتاباته الأسلوب الأدبي المبدع.
حصل "جمال حمدان" على الثانوية العامة عام (1363هـ - 1944م)، وكان ترتيبه السادس على القطر المصري، ثم التحق بقسم الجغرافيا بكلية الآداب، وكان طالبًا متفوقًا ومتميزًا خلال مرحلة الدراسة الجامعية؛ حيث كان منكبًّا على البحث والدراسة، متفرغًّا للعلم والتحصيل.
تخرج جمال حمدان عام (1367هـ ـ 1948م) ثم تم تعيينه معيدًا بالكلية، وأوفدته الجامعة في بعثة إلى بريطانيا سنة (1368هـ ـ 1949م)، حصل خلالها على الدكتوراه في "فلسفة الجغرافيا" من جامعة "ريدنج" عام (1372 هـ ـ 1953م)، وكان موضوع رسالته "سكان وسط الدلتا قديمًا وحديثًا"، الرسالة التي جعلت الجامعة تطلق على حمدان "فيلسوف الجغرافيا" وهو في الخامسة والعشرين من عمره، والتي لم تترجم حتى وفاته.
عقب عودته من بعثته العلمية انضم إلى هيئة التدريس بقسم الجغرافيا في كلية الآداب جامعة القاهرة، ثم رُقّي أستاذًا مساعدًا.. وأصدر في فترة تواجده بالجامعة كتبه الثلاثة الأولى: "جغرافيا المدن"، و"المظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم"، و"دراسات عن العالم العربي" وقد حصل بهذه الكتب على جائزة الدولة التشجيعية سنة (1379هـ ـ 1959م)، وقد لفتت كتبه أنظار الحركة الثقافية عامة، كما أنها صوبت إليه سهام الغيرة من قِبَل بعض زملائه وأساتذته داخل الجامعة، حتى اضطر في عام (1383هـ ـ 1963م) إلى التقدّم باستقالته من الجامعة؛ احتجاجًا على ظلم إداري تعرَّض له.
وباستقالة "جمال حمدان" من الجامعة تبدأ مرحلة طويلة من رحلة نسكية شديدة الخصوصية في طلب العلم، والانقطاع للتأمل والتأليف، ليثمر حمدان نتاجًا علميًّا غزيرًا، تكون موسوعته الفريدة "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان".
ومن الإنصاف أن نؤكد - كما أشار عدد من الباحثين - أن "جمال حمدان" لم ينعزل تلك الفترة الطويلة ذلك النوع السلبي من العزلة.. وإنما عَزَلَ ضجيج الحياة وصغائر همومها وتهافت صراعاتها عن فكره الراقي وعقله الثاقب؛ ليطلق لهما العنان في آفاق العلم الرحبة وغير المحدودة.حاولنا أن نصور منزل المفكر الراحل جمال حمدان ولكن للآسف لم تحتفظ به الأسرة حتى الآن، عشرون عاما مضت منذ وفاته كان من الصعب الاحتفاظ بالمنزل كما هو بعد وفاته، ولكننا ذهبنا إلى شارع أمين الرافعي حيث كان يقطن حمدان بحي الدقي، وحاولنا أن نعرف مصير الشقة التي كانت بمثابة مشكاة معرفة، كان حمدان زيتها أضاء بنوره علوم مصر الاجتماعية، وليثري حمدان شخصية مصر بشخصيته، المنزل استأجرته إحدى شركات التوظيف، وسمح لنا صاحبها أن نصور المنزل من الشرفة الداخلية التي كانت تطل على حديقة صغيرة كعادة كل العقارات القديمة التي كانت تخصص خلفية البيت كحديقة لسكانه.
وحاولنا من ناحية أخرى أن نعرف من سكان العقار الذين عاصروا حمدان تفاصيل أكثر عن حياته الاجتماعية معهم، وليحكوا لنا عن يوم مقتله، وما أسفرت عنه التحقيقات ولكن للآسف لم نستدل عن أي معلومات، وأغلب سكان العقار ممن شهدوا حادث الوفاة توفوا بدورهم ولكن بقيت لنا زوجة المستشار حلمي شاهين والتي تقطن في نفس العقار ولم نحصل منها على إجابات كافية ولكنها قالت: "سمعنا صوت انفجار كبير وشعرنا والمنزل يزلزل ثم وجدنا حريقًا كبيرًا، ونظرت من المنور ففوجئنا بنار قادمة من منزله فهرعت بالاتصال بأمن وزير العدل وقتها فاروق سيف النصر والذي كان يقطن بالعقار المجاور لنا ليلحقوا بالدكتور حمدان، والذي كان تجمعه علاقة صداقة بينه وبين زوجي الراحل وبالفعل جاءوا ولا نعرف بعدها ماذا أسفرت التحقيقات حول الحادث".، وفاة حمدان لغز لم تحاول النيابة وقتها أن تحله أو تكشف طلاسمه حتى الآن..!!
وقد حظي جمال حمدان بالتكريم داخل مصر وخارجها؛ حيث مُنح جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة 1986م، ومنحته الكويت جائزة التقدم العلمي سنة 1992م، فضلا عن حصوله عام 1959م على جائزة الدول التشجيعية في العلوم الاجتماعية، وكذلك حصل على وسام العلوم من الطبقة الأولى عن كتابه "شخصية مصر" عام 1988م.
عُرضت عليه كثير من المناصب التي يلهث وراءها كثير من الزعامات، وكان يقابل هذه العروض بالاعتذار، مُؤْثِرًا تفرغه في صومعة البحث العلمي، فعلى سبيل المثال تم ترشيحه عام 1983م لتمثيل مصر في إحدى اللجان الهامة بالأمم المتحدة، ولكنه اعتذر عن ذلك، رغم المحاولات المتكررة لإثنائه عن الاعتذار.
كما اعتذر بأدب ورقة عن عضوية مجمع اللغة العربية، وكذلك عن رئاسة جامعة الكويت… وغير ذلك الكثير